وجَوابُ مالكٍ في ذلكَ صريحٌ في الإثبات؛ فإنَّ السائلَ قال له:
يا أبا عبدِ الله: {ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾[طه: 5]؛ كيفَ
استوى؟ فقال مالك: الاستواءُ معلوم، والكَيْفُ مَجهول، وفي لفظ: استواؤُه معلومٌ
أو معقول، والكيْفُ غيرُ معقول، والإيمانُ به واجِب، والسؤالُ عنه بِدْعة، فقد
أخبرَ رضي الله عنه بأنَّ نفسَ الاستواءِ معلوم، وأنَّ كيفيةَ الاستواءِ مجهولة،
وهذا بعينِه قولُ أهلِ الإثبات.
وأما النُّفاةُ فما يُثبتون استواءً حتى تجهلَ كيفيَّتَه، بل عندَ
هذا القائلِ الشاكِّ وأمثاله أنَّ الاستواءَ مجهولٌ غيرُ معلوم.
وإذا كان الاستواءُ مجهولاً لمْ يحتَجْ إلى أنْ يُقال: الكيْفُ مجْهول، لا سيَّما إذا كان الاستواءُ منتفيًا، فالمُنْتفى المعدومُ لا كيفيَّةَ له حتى يقال: هي مجهولةٌ أو معلومة، وكلامُ مالكٍ صريحٌ في إثباتِ الاستواءِ وأنه معلوم، وأنَّ له كيفيةً، لكن تلكَ الكيفيةَ مجهولةٌ لنا لا نعلمُها نحن، ولهذا بدَّعَ السائلَ الذي سأَله عن هذه الكيفية، فإنَّ السؤالَ إنما يكونُ عن أمرٍ معلومٍ لنا ونحن لا نعلم كيفيةَ استوائِه، وليس كلُّ ما كان معلومًا وله كيفية تكونُ تلك الكيفيةُ معلومةً لنا؛ يُبين ذلك أنَّ المالكيةَ وغيرَ المالكيةِ نقَلوا عن مالكٍ أنه قال: اللهُ في السماءِ وعلمُه في كلِّ مكان، حتى ذكرَ ذلك مكيُّ خطيبُ قرطبةَ في كتاب «التفسير» الذي جمعَه من كلامِ مالك، ونقلَه أبو عمرو الطَّلمنكي وأبو عمرَ بنُ عبد البر، وابنُ أبى زيدٍ في «المختصر» وغيرُ واحد، ونقلَه أيضًا عن مالكٍ غيرُ هؤلاءِ ممَّن لا يُحصَى عددُهم، مثل أحمدَ بنِ حنبلٍ وابنِه عبدِ اللهِ والأثرمِ والخلالِ والآجري وابنِ بطة، وطوائفٍ غيرِ هؤلاء من المصنَّفين في السُّنة، ولو كان مالكٌ من الواقفةِ أو النُّفاةِ لم ينقلْ عنه هذا