فإذا عرفتَ هذه الأقوالَ
الثلاثةَ الباطلة؛ فليُعلم أنَّ مذهبَ سَلَفِ الأُمةِ وأئمتِها: أنَّ الميِّتَ إذا
ماتَ يكونُ في نعيمٍ أو عذاب، وأنَّ ذلك يحصُلُ لرُوحِه ولبَدَنه، وأنَّ الرُّوحَ
تبقَى بعد مُفارَقةِ البَدَنِ مُنعَّمةً أو مُعذَّبة، وأنَّها تتَّصِلُ بالبدنِ
أحيانًا؛ فيحصُلُ له معها النعيمُ والعذاب، ثم إذا كان يومَ القيامةِ الكُبرى
أُعيدَتِ الأرواحُ إلى أجسادِها وقاموا من قبورِهم لرَبِّ العالمين، ومَعَاد
الأبدانِ مُتفَقٌ عليه عندَ المسلمين واليهودِ والنصارى، وهذا كلُّه مُتفَقٌ عليه
عندَ علماءِ الحديثِ والسُّنة.
وهل يكونُ للبدنِ دونَ الرُّوحِ نعيمٌ أو عذابٌ؟ أثبتَ ذلك طائفةٌ
منهم وأنكرَه أكثرُهم، ونحنُ نذكُرُ ما يُبيِّنُ ما ذكرناه:
فأمَّا أحاديثُ عذابِ القبرِ ومسألةُ مُنكَرٍ ونَكِير فكثيرةٌ
مُتواتِرةٌ عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما في «الصَّحيِحين» عن ابنِ عباس
رضي الله عنهما أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ بقَبْرَيْن فقال: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا
يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ،
وَأَمَّا الآْخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ»، ثم دعا بجَرِيدَةٍ
رَطْبَة فشقَّها نِصفين، ثم غرَز في كلِّ قَبْرٍ واحدة، فقالوا: يا رسولَ الله، لم
فعلْتَ هذا؟! قال: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ
عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» ([1]).
وفي «صحيح مسلم» عن زيدٍ بنِ ثابتٍ قال: بَيْنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حائطٍ لبني النَّجَّارِ على بَغْلَةٍ ونحنُ معه، إذ حادتْ به فكادتْ تُلْقِيه، فإذا أَقْبُر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: «مَنْ يَعْرِفُ هَذِهِ الْقُبُورُ؟» فقال رجل: أنا، قال: «فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاَءِ؟» قالوا: ماتوا في الإشراك، فقال: «إِنَّ هَذِهِ الأُْمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»، ثم أقبلَ علينا بوجهِه،
([1])أخرجه: البخاري رقم (218)، ومسلم رقم (292).