فالذين قالوا: إنهم يعلمون تأويله مرادُهم بذلك أنهم يعلمون
تفسيرَه ومعناه، وإلاَّ فهلْ يحِلُّ لمسلم أن يقول: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه
وسلم ما كان يعرِفُ معنى ما يقولُه ويبلغُه من الآياتِ والأحاديث؟ بل كان يتكلمُ
بألفاظٍ لها معانٍ لا يعرفُ معانيها!
ومن قال: إنهم لا يعرفون تأويلَه أرادوا به الكيفيةَ الثابتةَ
التي اختصَّ اللهُ بعلمِها.
ولهذا كان السلفُ كربيعةَ ومالكٍ بنِ أنسٍ وغيرِهما يقولون:
الاستواءُ معلوم، والكيفُ مجهول، وهذا قولُ سائرِ السلفِ كابنِ الماجشون والإمامِ
أحمدَ بنِ حنبل وغيرهم، وفي غيرِ ذلك من الصفاتِ فمعنى الاستواءِ معلوم، وهو
التأويلُ والتفسيرُ الذي يعلمُه الراسخون، والكيفيةُ هي التأويلُ المجهولُ لبني
آدمَ وغيرِهم الذي لا يعلمُه إلاَّ الله سبحانه وتعالى.
وكذلك ما وعَدَ به في الجَنةِ تُعلِمُ العبادَ تفسيرَ ما أخبرَ
اللهُ به، وأما كيفيته فقد قال الله تعالى: {فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ
أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾[السجدة: 17] وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ
الصحيح: «قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ
لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ
خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» ([1]).
فما أخبرَ اللهُ به من صفاتِ المخلوقين نعلمُ تفسيرَه ومعناه، ونفهمُ الكلامَ الذي خوطبنا به، ونعلمُ معنى العسلِ واللحمِ واللبنِ والحريرِ والذهبِ والفضة، ونفرِّقُ بين مسمياتِ هذه الأسماء، وأمَّا حقائقها على ما هي عليه فلا يمكنُ أن نعلمَها نحن، ولا نعلمُ متى تكونُ الساعة؟ وتفصيلُ ما أعدَّه اللهُ عز وجل لعبادِه لا يعلمُه ملَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسَل،
([1])أخرجه: البخاري رقم (3244)، ومسلم رقم (2824).
الصفحة 5 / 458