×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الثاني

من أنفسِنا جوعًا وعطشًا وشبعًا وريًا وحبًا وبغضًا ولذة وألمًا ورضًى وسخطًا؛ لم نعرفْ حقيقةَ ما نُخاطَبُ به إذا وُصِف لنا ذلك، وأخبرنا به عن غيرنا، وكذلك لو لم نعلمْ ما في الشاهدِ حياةً وقدرةً وعلمًا وكلامًا؛ لم نفهمْ ما نُخاطَبُ به إذا وصف الغائب عنا بذلك، كذلك لو لمْ نشهدْه موجودًا لم نعرِفْ وجودَ الغائب عنا؛ فلابدَّ فيما شهِدْناه وما غاب عنَّا من قدْرٍ مشتركٍ هو مُسمَّى اللفظِ المتواطئ، فبهذه الموافقةِ والمشاركةِ والمشابهةِ والمواطأةِ نفهمُ الغائبَ ونثبتُه، وهذا خاصةُ العقل، ولولا ذلك لم نعلمْ إلاَّ ما نُحِسُّه، ولم نعلمْ أمورًا عامة ولا أمورًا غائبة عن أحاسيسنا الظاهرة والباطنة.

ولهذا من لمْ يحس الشيءَ ولا نظيرَه لم يعرفْ حقيقتَه، ثم إنَّ اللهَ تعالى أخبرَنا بما وعدَنا به في الدارِ الآخرةِ من النعيمِ والعذاب، وأخبرَنا بما يُؤكَلُ ويُشرَب ويُنكَحُ ويُفرَشُ وغيرِ ذلك، فلولا معرفتُنا بما يشبهُ ذلك في الدنيا لم نفهمْ ما وعدنا به، ونحن نعلمُ مع ذلك أنَّ تلك الحقائقَ ليست مثلَ هذه، حتى قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه: «ليس في الدنيا ممَّا في الجنةِ إلاَّ الأسماء»، وهذا تفسيرُ قولِه: {وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ[البقرة: 25] على أحدِ الأقوال، فبيْنَ هذه الموجوداتِ في الدنيا وتلك الموجوداتِ في الآخرةِ مشابهةٌ وموافَقة، واشتراكٌ من بعضِ الوجوه، وبه فهمنا المرادَ وأحببْناه ورغبْنا فيه، أو أبغضْناه ونفرْنا عنه، وبينهما مُبايَنةٌ ومفاضلةٌ لا يقدِّرُ قدرَها في الدنيا، وهذا من التأويلِ الذي لا نعلمُه نحن، بل يعلمُه اللهُ تعالى، ولهذا كان قولُ من قال: «إن المتشابه لا يعلم تأويله إلاَّ الله» حقًا، وكلا القولينِ مأثورٌ عن السَّلفِ من الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان.


الشرح