ومثالُ ذلك أنه إذا قال: النزولُ والاستواءُ ونحو ذلك من صفاتِ
الأجسام، فإنه لا يُعقَلُ النزولُ والاستواءُ إلاَّ لجسمٍ مركَّب، واللهُ سبحانه
منزَّهٌ عن هذه اللوازم، فيلزمُ تنزيهُه عن الملزوم، أو قال: هذه حادثةٌ والحوادثُ
لا تقومُ إلاَّ بجسمٍ مركَّب، وكذلك إذا قال: الرضا والغضبُ والفرحُ والمحبةُ ونحو
ذلك هو من صفاتِ الأجسام، فإنه يقال له: وكذلك الإرادةُ والسمعُ والبصرُ والعلمُ
والقدرةُ من صفاتِ الأجسام، فإنا كما لا نعقلُ ما ينزلُ ويستوي ويغضبُ ويرضى إلاَّ
جسمًا، لم نعقلْ ما يسمعُ ويبصرُ ويريدُ ويعلمُ ويقدرُ إلاَّ جسمًا، فإذا قيل:
سمعُه ليس كسمعِنا، وبصرُه ليس كبصرِنا، وإرادتُه ليس كإرادتِنا، وكذلك علمُه
وقدرتُه، قيل له: وكذلك رضاه ليس كرضانا، وغضبُه ليس كغضبنِا، وفرحه ليس كفرحنا،
ونزولُه واستواؤُه ليس كنزولِنا واستوائِنا، فإذا قال: لا يعقل في الشاهدِ غضب
إلاَّ غليان دم القلب لطلب الانتقام، ولا يعقلُ نزولٌ إلاَّ الانتقال، والانتقالُ
يقتضي تفريغَ حيِّزٍ وشغلٍ آخر، فلو كان ينزلُ لم يبقَ فوقَ العرشِ رب.
قيل: ولا يعقلُ في الشاهدِ إرادةٌ إلاَّ ميلُ القلبِ إلى جلبِ ما يحتاجُ إليه وينفعُه، ويفتقرُ فيه إلى ما سواه ودفع ما يضُرُّه، واللهُ سبحانه وتعالى كما أخبرَ عن نفسِه المقدسةِ في حديثه الإلهي: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي» ([1])؛ فهو منزه عن الإرادة التي لا يعقل في الشاهد إلاَّ هي، وكذلك السمعُ لا يعقلُ في الشاهدِ إلاَّ بدخولِ صوتٍ في الصُّماخ، وذلك لا يكونُ إلاَّ في أجوف، واللهُ سبحانه أحدٌ صمدٌ منزَّهٌ عن مثلِ ذلك، بل وكذلك البصرُ والكلامُ
([1])أخرجه: مسلم رقم (2577).
الصفحة 4 / 458