ونحو ذلك من الحديثِ الذي
فيه إتيانُ القرآنِ ومجيئُه، وقالوا له: لا يوصَفُ بالإتيانِ والمجيءِ إلاَّ
مخلوق، فعارضَهم أحمد بقولِه: بأنَّ المرادَ به مجيءُ ثوابِ البقرة وآل عمران، كما
ذَكرَ مثلَ ذلك من مجيءِ الأعمالِ في القبرِ وفي القيامة، والمرادُ منه ثوابُ
الأعمال، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: «اقْرَءُوا
الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ، يَأْتِيَانِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ
كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ» ([1])، وهذا الحديثُ في الصحيح، فلما أُمِرُوا بقراءَتِهما،
وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ، عُلِمَ أنه أرادَ بذلك قراءةَ القارئِ لهما وهو
عملُه، وأخبرَ بمجيءِ عملِه الذي هو التلاوةُ لهما في الصورةِ التي ذكرَها، كما
أخبرَ بمجيءِ غيرِ ذلك من الأعمال.
والمقصودُ هنا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما أخبرَ
بمجيءِ القرآنِ في هذه الصورةِ أراد به الإخبارَ عن قراءةِ القارئِ التي هي عملُه،
وذلك هو ثوابُ قارئِ القرآن، وليس المرادُ به أنَّ نفسَ كلامِه الذي تكلَّم به وهو
قائمٌ بنفسِه يتصوَّرُ صورةَ غَمامتين فلم يكنْ هذا حُجَّة للجهميةِ على ما
ادَّعوا.
ثم إنَّ الإمامَ أحمدَ في المحنةِ عارَضَهم بقولِه تعالى: {هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ﴾[البقرة: 210] قال: قيل: إنما يأتي أمرُه، هكذا نقلَ حنبل ولم ينقلْ هذا غيرُه مِمَّن نقلَ مُناظرتَه في المحنةِ كعبدِ اللهِ بنِ أحمدَ وصالحٍ بنِ أحمدَ والمروذي وغيره، فاختلفَ أصحابُ أحمدَ في ذلك، فمنهم من قال: غلطَ حنبل، لم يقلْ أحمدُ هذا، وقالوا: حنبل له غَلطَاتٌ معروفةٌ وهذا منها، وهذه طريقةُ أبي إسحاق بن شاقلا، ومنهم من قال: بل أحمدُ قال ذلك على سبيلِ
([1])أخرجه: مسلم رقم (804).