الإلزامِ لهم، يقول: إذا كان أخبرَ عن نفسِه بالمجيءِ والإتيانِ
ولم يكنْ ذلك دليلاً على أنه مخلوق، بل تأولتم ذلك على أنَّه جاء أمرُه، فكذلك
قولوا: جاء ثوابُ القرآنِ لا أنه نفسُه هو الجائي، فإنَّ التأويلَ هنا ألزم، فإنَّ
المُرادَ هنا الإخبارُ بثوابِ قارئِ القرآن، وثوابُه عملٌ له لم يُقصَدْ به
الإخبارُ عن نفسِ القرآن.
فإذا كان الرَّبُّ قد أخبرَ بمجيءِ نفسِه، ثم تأوَّلْتم ذلك بأمرِه،
فإذا أخبرَ بمجيءِ قراءةِ القرآنِ فلأن تتأولوا ذلك بمجيءِ ثوابِه بطريقةِ
الأَوْلى والأحْرَى، وإذا قاله لهم على سبيلِ الإلزام، لم يلزمْ أنْ يكونَ موافقًا
لهم عليه، وهو لا يحتاجُ إلى أن يلتزمَ هذا، فإنَّ هذا الحديثَ له نظائرُ كثيرةٌ
في مجيءِ أعمالِ العباد، والمرادُ مجيءُ قراءةِ القرآنِ التي هي عملُه، وأعمالُ
العبادِ مخلوقةٌ وثوابُها مخلوق، ولهذا قال أحمدُ وغيرُه من السَّلفِ: إنه يجيءُ
ثوابُ القرآن، والثوابُ إنما يقعُ على أعمالِ العبادِ لا على صفاتِ الرَّبِّ
وأفعالِه.
وذهب طائفةٌ ثالثةٌ من أصحابِ أحمدَ إلى أنَّ أحمدَ قال هذا ذلك الوقت، وجعلوا هذا روايةً عنه، ولا ريبَ أنَّ المنقولَ المتواترَ عن أحمدَ يُناقضُ هذه الرواية، ويُبينُ أنَّه لا يقولُ إنَّ الرَّبَّ يجيءُ ويأتي وينزل أمره، بل هو يُنكرُ على من يقولُ ذلك، والذين ذكروا عن تأويلِ أحمدَ النزولَ ونحوَه من الأفعالِ لهم قولان؛ منهم من يتأولُ ذلك بالقصدِ، كما تأوَّلَ بعضُهم قولَه: {ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ﴾[البقرة: 29]، بالقصدِ وهذا هو الذي ذكرَه ابنُ الزَّاغوني، ومنهم من يتأوَّلُ ذلك بمجيءِ أمرِه ونزولِ أمرِه، وهو المذكور في رواية حنبل.