والأوَّلُ: هو المَأثُورُ
عن السَّلَف، وهو الذي ذَكَره البُخاريُّ في كتاب «خَلْق أَفعَال العِبَادِ» عن
العُلَماء مُطلَقًا ولم يَذكُر فيه نِزاعًا، وكَذلِكَ ذَكَره البَغَويُّ وغَيرُه
مَذهَبَ أهلِ السُّنَّة، وكَذلِكَ ذَكَره أبو عليٍّ الثَّقَفِيِّ والضَّبْعِي
وغيرُهُما من أَصحابِ ابن خُزَيمَةَ في العَقِيدَة التي اتَّفَقُوا هُم وابنُ
خُزَيمَةَ على أنَّها مَذهَبُ أهلِ السُّنَّة، وكَذلِكَ ذَكَره الكُلاَّبَاذِيُّ
في كتاب «التَّعَرُّف لِمذَهَب التَّصَوُّف» أنَّه مَذهَبُ الصُّوفِيَّة، وهو مَذهَب
الحَنَفِيَّة وهو مَشهُورٌ عِندَهم.
وبَعضُ المُصَنِّفين في الكَلامِ كالرَّازِيِّ ونَحوِه يَنصِب
الخِلاَفَ في ذَلِكَ مَعَهم، فَيَظُنُّ الظَّانُّ أنَّ هذا مِمَّا انفَرَدوا به،
وهو قَولُ السَّلَف قَاطِبَةً وجَمَاهِيرِ الطَّوائِفِ، وهو قَولُ جُمهُور أَصحَابِ
أَحمَدَ مُتَقَدِّمِيهم كُلِّهم وأَكثَرِ المُتَأخِّرِين مِنهُم، وهو أَحَدُ
قَولَي القَاضِي أَبِي يَعلَى، وكَذلِكَ هو قَولُ أئِمَّة المَالِكِيَّة
والشَّافِعيَّة وأَهلِ الحَدِيث، وأَكثَرِ أَهلِ الكَلامِ كالهاشِمِيَّة أو كَثيرٍ
منهم، والكَرَّامِيَّة كلِّهم، وبَعضِ المُعتَزِلَة، وكَثيرٍ من أَساطِينِ
الفَلاسِفَة مُتَقَدِّميهم ومُتَأخِّرِيهم.
وذَهَب آخَرُون مِن أَهلِ الكَلاَمِ الجَهمِيَّة وأَكثرِ المُعتَزِلَة والأَشعَرِيَّة إلى أن الخَلْق هو نفس المَخلُوق، وليس لله عند هَؤُلاءِ صُنْع ولا فِعْل ولا خَلْق ولا إِبدَاع إلاَّ المَخلُوقاتِ أَنفُسَها، وهو قَولُ طَائِفَة من الفَلاسِفَة المُتَأخِّرين؛ إذ قالوا: إن الرَّبَّ مُبدِعٌ، كابْنِ سِينَا وأمثاله، والحُجَّة المَشهُورَة لِهَؤُلاءِ المُتكَلِّمين: أنَّه لو كان خَلَق المَخلُوقاتِ بخَلْقٍ لَكَان ذَلِك الخَلْقُ، إمَّا قديمًا أو حديثًا؟ فإن كان قديمًا لَزِم قِدَمُ كُلِّ مَخلُوق، وَهَذِه مُكابَرَة، وإن كان حادِثًا فإنْ قام بالرَّبِّ لَزِم قِيامُ الحَوادِثِ به، وإنْ لم يَقُم به كان الخَلْقُ قائمًا بغَيرِ الخَالِق،