×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الثاني

والثَّانِي: أن القُربَ هنا بعِلْمه؛ لأنه قد قال: {وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ[ق: 16]، فذِكْر لَفْظِ العِلْم هنا دلَّ على القُربِ بالعِلْم.

ومثل هَذِه الآية حديث أبي موسى: «إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، إنَّ الذي تَدعُونه أَقرَبُ إلى أَحَدِكم من عُنُق رَاحِلَته» ([1]).

فالآية لا تحتاج إلى تأويلِ القُربِ في حقِّ الله تعالى إلاَّ على هذا القَولِ، وحينئذٍ فالسِّياق دلَّ عليه، وما دلَّ عَلَيهِ السِّياق هو ظاهِرُ الخِطابِ فلا يَكُون من مَوارِد النِّزاع.

وقد تقدَّم أنَّا لا نَذُمُّ كلَّ ما يُسمَّى تأويلاً، وإنَّما نذمُّ تَحرِيفَ الكَلِم عن مَواضِعِه ومُخالَفَةَ الكِتابِ والسُّنَّة والقُولَ في القُرآنِ بالرَّأي.

وتَحقِيقُ الجَوابِ هو أن يقال: إمَّا أن يَكون قُربُه بنَفسِه القُربَ اللاَّزِمَ مُمكِنًا أو لا يكون؛ فإن كان مُمكِنًا لم تَحتَجِ الآية إلى تَأويلٍ، وإن لم يَكُن مُمكِنًا حُمِلت الآية على ما دلَّ عَلَيهِ سِياقُه وهو قُربُه بعِلْمه.

وعلى هذا القول؛ فإمَّا أن يكون هذا هو ظاهِرُ الخِطابِ الَّذي دلَّ عَلَيهِ السِّياقُ أو لا يَكُون؛ فإذا كان هو ظاهر الخطاب فلا كَلامَ؛ إذ لا تَأوِيلَ حينئذٍ، وإن لَم يَكُن ظاهِرُ الخطاب؛ فإنَّما حُمِل على ذلك لأنَّ الله تعالى قد بيَّن في غَيرِ مَوضِع من كِتابِه أنه على العَرشَ وأنَّه فَوْقَ، فكان ما ذَكَره في كِتابِه في غَيرِ مَوضِع، أنَّه فَوقَ العَرشِ مع ما قَرَنه بهذِهِ الآيَة من العِلْم دليلاً على أنَّه أراد قُربَ العِلمِ؛ إذ مُقتَضى تلك الآياتِ يُنافِي ظاهِرَ هَذِه الآية على هذا التَّقديرِ، والصَّريحُ يَقضِي على الظاهِرِ


الشرح

([1])أخرجه: البُخاريّ رقم (2993)، ومسلم رقم (2704).