إلى أن قال رحمه الله: فهذا القَدْر لا يُخالِفُه عاقل؛ فإنَّه
أمرٌ محسوس مُدرَك وهو أقلُّ مَراتِبِ الإقرار بالله، بل الإِقرارُ بوُجودِ أيِّ
شيءٍ كان، وأقلُّ مَراتِب عِبادَتِه ومحبَّتِه والتقرُّبِ إليه.
ثم مع ذلك هل يتحرَّكُ القلبُ والرُّوحُ العارِفَة المُحِبًّة،
أم لا حَرَكَةَ لها إلاَّ مُجرَّدُ التَّحوُّلِ من صفة إلى صفةٍ؟ الأول مَذهَبُ
عامَّة المُسلِمين وجُمهُور الخَلْق، والثَّانِي قَولُ المُتفَلسِفة ومَن
اتَّبَعهم؛ إذ عِندَهم أن الرُّوحَ لا داخِلَ البَدَن ولا خارِجَه ولا تتحرَّك ولا
تَسكُن، وأما الجُمهُور فيُقِرُّون بتحرُّكِها نَحوَ المحبوب المطلوب كائنًا من
كان.
إلى أن قال رحمه الله: وأمَّا حركة رُوحِ العَبدِ أو بَدَنِه إلى
ذاتِ الرَّبِّ فلا يُقِرُّ به مَن كذَّب بأنَّ الله فوق العرش، مِن هَؤُلاءِ
المُعَطِّلة الجَهمِيَّة الذين كان السَّلَف يكفِّرونَهُم ويَرَون بِدْعَتَهم
أشدَّ البدع، ومنهم مَن يراهم خارِجِين من الثِّنْتَين والسَّبْعين فِرقَةً، مثل
من قال: إنَّه في كل مكان، وأنَّه لا داخِلَ العالَم ولا خارِجَه.
لكنْ عموم المسلمين وسلف الأمَّة وأهلِ السُّنَّة من جميع
الطوائِفِ تُقِرُّ بذلك، فيكون العبد متقرِّبًا بحَرَكة رُوحِه وبَدَنِه إلى ربِّه
مع إثباتهم أيضًا التقرُّبَ منهما إلى الأماكن المُشرَّفة، وإثباتِهم أيضًا تحوُّلَ
رُوحِه من حالٍ إلى حالٍ.
فالأول: مِثلُ مِعرَاج
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعُروجِ رُوحِ العبد إلى ربِّه، وقُربِه من ربِّه في
السجود وغير ذلك.
والثَّاني: مِثلُ الحجِّ
إلى بَيتِه، وقَصْده في المساجد.
والثالث: مِثلُ ذِكْره
ودُعائِه ومحبَّته وعِبادَتِه وهو في بيته، لكن في هذَيْن يُقِرُّون أيضًا بقُربِ
الرُّوح أيضًا إلى الله نَفْسه، فيَجمَعون بين الأنواع كلِّها.
***
الصفحة 5 / 458