×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الثاني

 كمَا أَطْبَقَتْ عَلى ذَلكَ الفَلاسِفَةُ؛ كما قالَ ابنُ سِينَا وغيرُه: أجمَعَ فَلاسِفَةُ العَالَمِ عَلَى أنَّهُ لا يَقْرَعُ العَالَمَ نَامُوسٌ أعظمَ مِن هَذا النَّامُوسِ، لكنْ مَن لَمْ يَتَّبِعْهُ يُعَلِّلُ نَفْسَه بأنَّهُ لا يَجِبُ عليهِ اتِّبَاعُه؛ لأنه رَسُولٌ إلَى العَرَبِ الأُمِّيينَ دُونَ أَهلِ الكِتَابِ؛ لأنه إن كانَ دِينُه حَقًا فَلِدِينِنَا أيضًا حقٌّ والطَّرِيقُ إلى اللهِ تعَالى مُتَنَوِّعَةٌ، ويُشَبِّهُون ذلك بِمَذاهِبِ الأَئِمَّةِ، فإنه وإن كانَ أحدُ المَذَاهِبِ يُرَجَّحُ على الآخَرِ، فأهْلُ المَذَاهِبِ الأُخْرَى لَيْسُوا كُفَّارًا، هذه الشبهَةُ الَّتِي يَضِلُّ بِها المتكايِسُونَ منِ أهلِ الكتابِ والمُتفَلْسِفَةِ ونَحْوِهم وبُطْلانُهَا ظَاهِرٌ؛ فإنه كَمَا عَلمَ عِلمًا ضَرُوريًّا مُتواتِرًا أنه دعَا المُشْرِكينَ إلى الإيمَانِ فقَد عَلِمَ بمثلِ ذَلكَ أنه دَعَا أهلَ الكِتَابِ إلى الإيمَانِ بِه.

وأنه جَاهَدَ أهْلَ الكِتَابِ كَمَا جَاهَدَ المُشرِكينَ؛ فَجَاهَد بِنَي قَيْنُقَاعٍ وبَنِي النَّضِيرِ وقُرَيْظَةَ وأهلَ خَيْبَرَ؛ وهَؤُلاءِ كُلُّهُم يَهُودُ، وسَبَى ذُرِّيَّتَهُم ونِسَاءَهُم وغَنَم أَمْوَالَهُم، وأنه غَزَا النَّصَارَى عَامَ تَبُوكٍ بِنَفْسِه وبِسَرَايَاهُ حَتَّى قُتِلَ فِي مُحَارَبَتِهم زَيدٌ مَولاهُ وجَعْفَرٌ وغيرُهُ مِن أهلِه، وأنه ضرَبَ الجِزْيَةَ على نَصَارَى نَجْرَانَ، وكذَلكَ خُلفَاؤُه الرَّاشِدُونَ مِن بَعْدِه جَاهَدُوا أهلَ الكِتَابِ وقَاتلُوا مَن قاتَلَهُم وضَرَبُوا الجِزيَةَ عَلَى مَن أَعْطَاها مِنهُم عَن يَدٍ وهُم صَاغِرُونَ.

وهَذا القُرآنُ يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ أنه الكتابُ الذِي جاءَ به مَمْلُوءٌ مِن دعوَةِ أهلِ الكتابِ إلى اتِّبَاعِه، ويُكَفِّرُ مَن لَم يَتَّبِعْه مِنهُم ويَذُمُّه ويَلْعَنُه، والوَعِيدُ له كمَا فِي تَكْفيِر مَن لَم يَتَّبِعْهُ مِنَ المُشْرِكينَ وذمُّه؛ كما قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم[النساء: 47] الآية، وفي القرآنِ مِن قولِه: {يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ[آل عمران: 64]،


الشرح