وأَيْضًا فَإِبليسُ الذي هُو أَبُو الجِنِّ لَمْ تَكُنْ
مَعْصِيَتُهُ تَكْذِيبًا، فإنَّ اللهَ أمَرَهُ بِالسُّجُودِ وقَد عَلِمَ أنَّ
اللهَ أَمَرَهُ ولَمْ يَكُن بَيْنَهُ وبينَ اللهِ رَسُولٌ يُكَذِّبُه، ولَمَّا
امْتَنَعَ عَنِ السجُودِ لآدمَ عَاقَبَهُ اللهُ العُقُوبَةَ البَلِيغَةَ، ولِهَذَا
قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا
سَجَدَ ابن آدم، اعتزل الشيطان يبكي» ([1]) الحديثَ.
وقد قال تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُليمَانَ: {وَلِسُلَيۡمَٰنَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهۡرٞ وَرَوَاحُهَا شَهۡرٞۖ
وَأَسَلۡنَا لَهُۥ عَيۡنَ ٱلۡقِطۡرِۖ وَمِنَ ٱلۡجِنِّ مَن يَعۡمَلُ بَيۡنَ
يَدَيۡهِ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَمَن يَزِغۡ مِنۡهُمۡ عَنۡ أَمۡرِنَا نُذِقۡهُ مِنۡ
عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ﴾[سبأ: 12]، وقَد جعَلَ فِي ذلك ما أَمَرَهُم بِه مِن
طَاعَةِ سُلَيمَانَ.
وقالَ تَعَالَى عَنْ إِبليسَ: إنه عصَى، ولم يَقُلْ: إنه كَذَّبَ، وقد قال تَعَالى عَنِ الجِنِّ: {يَٰقَوۡمَنَآ إِنَّا سَمِعۡنَا كِتَٰبًا أُنزِلَ مِنۢ بَعۡدِ مُوسَىٰ﴾[الأحقاف: 30] إلى قولِهِ: {وَمَن لَّا يُجِبۡ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيۡسَ بِمُعۡجِزٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[الأحقاف: 32] الآيةَ، فأُمِرُوا بإجابةِ دَاعِي اللهِ الذي هُو الرَسُولُ، والإجَابةُ والاستِجَابةُ هِي طَاعةُ الأمْرِ والنَّهْيِ، وهِيَ العِبَادَةُ التي خَلَقَ لهَا الثَّقَلاَنِ كمَا قَالَ تَعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾[الذاريات: 56]، ومَنْ قَال: إِنَّ العِبَادَةَ هِي المَعْرِفَةُ الفِطريةُ المَوجُودَةُ فِيهَا، وأنَّ ذَلكَ هُو الإيمانُ وهُو دَاخِلٌ فِي الثَّقَلَينِ فَقَط؛ فَإنَّ ذَلكَ لَو كَانَ كَذَلكَ لَم يَكُن فِي الثَّقَلَيْنِ كَافِرٌ، واللهُ أَخْبَرَ بِكُفْرِ إبليسَ وغيرِه مِنَ الجِنِّ والإنسِ، وقد قَالَ تَعَالَى: {لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ﴾[هود: 119] وأخبر أنه يَمْلَؤُهَا مِنهُ ومِنْ أَتْبَاعِه، وهَذا بَيَّنَ أَنه لا يَدْخُلُها إلاَّ مَنِ اتَّبَعَهُ، فعَلِم أن مَن يَدْخُلُها مِنَ الكُفَّارِ والفُسَّاقِ مِن أَتْبَاعِ إِبليسَ، ومَعلُومٌ أنَّ الكُفَّارَ لَيسُوا بمُؤمِنينَ ولا عَارفينَ اللهَ معرفةً يَكُونُون بها مُؤمِنينَ.
([1])أخرجه: مسلم رقم (81).