أو لا يكونُ فوقَ الخلْقِ كما تقولُ الجَهْميَّة، فأمَّا أنْ يكونَ الحقُّ إثباتَ ذلكَ أو نفْيِه؟ فإنْ كان نفيُ ذلكَ هو الحَق؛ فمعلومٌ أنَّ القرآنَ لم يُبيِّنْ هذا قط، لا نصًّا ولا ظاهرًا، ولا الرسول ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ لا أئمة المذاهب الأربعة ولا غيرهم، ولا يمكن لأحدٍ أن ينقُلَ عن واحدٍ من هؤلاء أنه نفى ذلك أو أخبَرَ به، وأمَّا ما نُقِلَ من الإثباتِ عن هؤلاءِ فأكثر من أنْ يُحصَى أو يُحصَر؛ فإن كان الحقُّ هو النفيُ دونَ الإثبات، والكتابُ والسُّنةُ والإِجماع إنَّما دلَّ على الإثباتِ ولم يذكُرِ النَّفيَ أصلاً؛ لِزمَ أنْ يكونَ الرسولُ والمؤمنون لم ينطِقوا بالحقِّ في هذا الباب، بل نطقوا بما يدل -إما نصًا وإما ظاهرًا - على الضلالِ والخطأ المُنَاقضِ للهُدَى والصواب! ومعلومٌ أنَّ من اعتقدَ هذا في الرسولِ والمؤمنين فله أوفرُ حظٍّ من قولِه تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا﴾[النساء: 115]؛ فإنَّ القائلَ إذا قال: هذه النصوصُ أُريدَ بها خِلافُ ما يُفهَمُ منها أو خِلافُ ما دلَّتْ عليه، أو أنه لمْ يرِدْ إثباتُ عُلُوِّ الله نفسِه على خلقِه، وإنما أُرِيدَ بها عُلُوُّ المكانةِ ونحو ذلك، فيقال له: فكان يجِبُ أن يُبيِّنَ للناسِ الحقَّ الذي يجِبُ التَّصديقُ به باطنًا وظاهرًا، بل ويُبيِّنُ لهم ما يدلُّهم على أنَّ هذا الكلامَ لم يردْ به مفهومُه ومُقتَضَاه؛ فإنَّ غايةَ ما يُقدَّرُ أنه تكلَّمَ بالمجازِ المُخالِفِ للحقيقةِ والباطنِ المخالِفِ للظاهر، ومعلومٌ باتفاقِ العُقلاءِ أنَّ المُخَاطِبَ المبيِّنَ إذا تكلَّمَ بالمجازِ فلا بدَّ أن يَقرِنَ بخطابِه ما يدُلُّ على إرادةِ المعنى المجازي، فإذا كان الرسولُ المبلِّغُ المُبيِّنُ الذي بيَّنَ للناسِ ما نُزِّلَ إليهم يعلمُ أنَّ المرادَ بالكلامِ خِلافُ مفهومِه ومُقتضَاه؛ كان عليه