وما بينهُنَّ في يدِ الرحمنِ إلاَّ كخَرْدَلةٍ في يدِ أحدِكم ([1])، وهو سبحانه بيَّنَ لنا من عظمتِه بقدْرِ ما نعقِلُه.
إلى أن قال: فمَن هذه عظمتُه كيفَ يحصُرُه شيءٌ من المخلوقاتِ
سماء أو غير سماء، حتى يقال: إنه إذا نزلَ إلى سماءِ الدنيا صار العرشُ فوقَه، أو
يصيرُ شيءٌ من المخلوقاتِ يحصُرُه ويُحيطُ به سبحانه وتعالى !
فإذا قال: هو قادرٌ على ما يشاء، قيل: فقل: هو قادرٌ على أنْ
ينزلَ إلى السماءِ الدنيا وهو فوقَ عرشِه سبحانه وتعالى، وإذا استدْللْتَ بمطلقِ
القُدرةِ والعظمةِ من غيرِ تمييز، فما كان أبلغَ في القدرةِ والعظمة، فهو أولى
بأنْ يوصَف به مما ليس كذلك، فإن من تَوهَّم العظيمَ الذي لا أعظمَ منه يقدرُ على
أنْ يصْغُرَ حتى يُحيطَ به مخلوقُه الصغيرُ وجعل هذا من بابِ القدرةِ والعظمة،
فقولُه: إنَّه ينزلُ مع بقاءِ عظمتِه وعلوِّه على العرشِ أبلغُ في القدرةِ
والعظمةِ وهو الذي فيه موافقةُ العقلِ والشرع.
إلى أن قال رحمه الله: وإذا عُرِفَ تنزيهُ الربُّ عن صفاتِ النقصِ مطلقًا، فلا يوصَفُ بالسُّفولِ ولا علو شيءٍ عليه بوجهٍ من الوجوه، بل هو العليُّ الأعلَى الذي لا يكونُ إلاَّ أعلى، وهو الظاهرُ الذي ليس فوقَه شيء، كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ([2])، وأنه ليس كمثلِه شيءٌ فيما يوصَفُ به من الأفعالِ اللازمةِ والمتعديةِ لا النزولِ ولا الاستواءِ ولا غيرِ ذلك، فيجِبُ مع ذلك إثباتَ ما أثبتَه لنفسِه في كتابِه وعلى لسانِ رسولِه، والأدلةُ العقليةُ الصحيحةُ توافِقُ ذلك لا تُناقِضُه، ولكن السمعَ والعقلَ يُتناقضان البدع المخالفةَ للكتابِ والسُّنة، بل الصحابةُ والتابعون لهم بإحسانٍ كانوا يُقرُّون أفعالَه من الاستواءِ والنزول وغيرِهما على ما هي عليه.
([1])أخرجه: ابن بطة في «الإبانة» رقم (237).