وقد أوحى الله إلى موسى بالعِبْرَانِيَّة وإلى مُحمَّد
بالعَرَبِيَّة، والجميع كلام الله، وقد بيَّن الله بذلك ما أراد من خَلْقِه
وأَمْرِه، وإن كانت هَذِه اللُّغَة ليست الأخرى، على أنَّ العِبْرَانية من أَقرَبِ
اللُّغاتِ إلى العَرَبِيَّة؛ حتى إنها أَقرَبُ إليها من لُغَة بعض العَجَم إلى
بعضٍ.
فبالجملة: نحن ليس
غرضُنا إِقامَةَ الدَّليل على عدم ذلك، بل يَكْفِينا أن يُقال: هذا غَيرُ معلوم
وُجُوده، بل الإِلهامُ كان في النُّطقِ باللُّغاتِ من غَيرِ مُواضَعَةٍ
مُتَقَدِّمة، وإذا سُمِّي هذا تَوقِيفًا فَلْيُسَمَّى توقيفًا، وحينئذٍ فمَن
ادَّعى وضعًا متقدِّمًا على استِعمَالِ جَميعِ الأَجناسِ فقد قال ما لا عِلْمَ له
به، وإنَّما المَعلُوم بلا ريبٍ هو الاستِعمال.
ثم هَؤُلاءِ يقولون: تتميَّزُ الحَقِيقَة من المَجـازِ
بالاكتِفَاء باللَّفظِ، فإذا دلَّ اللَّفظُ بمُجَرَّدِهِ فهو حَقِيقةٌ، وإذا لم
يدلَّ إلاَّ مع القرينة فهو مجاز، وهذا متعلِّق باستِعمال اللَّفظِ في المعنى لا
بِوَضْعٍ متقدِّمٍ.
ثم يقال: ثانيًا: هذا التَّقسيم لا حقيقة له «يعني: تقسيم
الكَلامِ إلى حقيقة ومَجازٍ»، وليس لِمَن فرَّق بينهما حدٌّ صحيح يميَّز به بين
هذا وهذا؛ فعُلِم أنَّ هذا تقسيمٌ باطِلٌ، وهو تقسيم مَن لم يَتصوَّر ما يقول، بل
يتكلَّم بلا علم، فهم مُبتَدِعة في الشرع مُخالِفون في العَقلِ، وذلك أنهم قالوا:
الحَقِيقَة اللَّفظُ المُستَعمَل فيما وُضِعَ له، والمَجـازُ هو المُستَعمل في
غَيرِ ما وُضِع له، فاحتاجوا إلى إثبات الوَضْعِ السَّابِق على الاستِعمال، وهذا
يتعذَّر.
ثم يقسِّمون الحَقِيقَة إلى لُغَوِيَّة وعُرْفِيَّة، وأَكثَرُهم يُقَسِّمُها إلى ثلاثٍ: لُغَوية وشرعِيَّة وعُرْفِيَّة.