×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الثاني

وهذا كلُّه إنَّما يَصِحُّ لو عُلِم أنَّ الأَلفاظَ العَرَبِيَّة وُضِعت أوَّلاً لمعانٍ ثمَّ بعد ذلك استُعمِلَت فيها، فيكون لها وَضْعٌ متقدِّم على الاستعمال، وهذا إنما صحَّ على قول مَن يَجعَل اللُّغاتِ اصطِلاحِيَّة؛ فيدَّعِي أنَّ قومًا من العُقَلاء اجتَمَعوا واصطَلَحُوا على أن يُسَمُّوا هذا بكذا وهذا بكذا، ويَجعَل هذا عامًّا في جَميعِ اللُّغاتِ، وهذا القول لا نَعرِف أحدًا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن الجُبَّائِيِّ.

وإنه لا يُمكِن أحدًا أن يَنقُل عن العرب، بل ولا عن أُمَّة من الأُمَم أنَّه اجتَمَع جماعةٌ فوَضَعوا جَمِيع هَذِه الأسماءِ المَوجُودة في اللُّغَة ثمَّ استَعمَلُوها بعد الوَضْعِ، وإنَّما المَعرُوف المَنقُول بالتَّواتُر استِعمالُ هَذِه الألفاظِ فيما عَنَوه بها من المعاني، فإنِ ادَّعى مُدَّعٍ أنَّه يَعلَم وَضْعًا يتقدَّم ذلك فهو مُبطِل؛ فإنَّ هذا لم يَنقُلْه أحدٌ من النَّاس.

ولا يُقال: نحن نَعلَم ذلك بالدَّليل؛ فإنَّه إن لم يَكُن اصطِلاحٌ متقدِّم لم يُمكِن الاستِعمَال.

قيل: ليس الأَمرُ كَذلِكَ، بل نحن نَجِد أنَّ الله يُلهِم الحَيَوان من الأصوات ما به يَعرِف بَعضُها مُرادَ بَعضٍ، وقد سمَّى ذلك مَنطِقًا وقولاً في قول سليمان: {عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ[النمل: 16].

وفي قوله: {قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ[النمل: 18].

وفي قوله: {يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ[سبأ: 10].

وكَذلِكَ الآدمِيُّون؛ فالمولود إذا ظَهَر منه التِّميِيز سَمِع أَبَوَيهِ أو مَن يُرَبِّيه يَنطِق باللَّفظِ ويُشير إلى المعنى فصار يَفهَم أنَّ ذلك اللَّفظَ يُستَعمل في ذلك المعنى؛ أي: أراد به المُتكلِّم ذلك المعنى، ثم هذا يَسمَع لفظًا بعد لَفْظٍ حتى يَعرِف لُغَة القَومِ الذين نشأ بينهم من غَيرِ أن يكونوا قد


الشرح