أغرق الله عام الطُّوفان
جَمِيعَ ذُرِّيَّتِه إلاَّ مَن في السَّفينة، وأَهلُ السَّفِينَة انقَطَعت
ذُرِّيَتُهم إلاَّ أَولادُ نُوحٍ، ولم يكونوا يتكلَّمون بجَميعِ ما تكلَّمت به
الأمم بعدهم؛ فإنَّ اللُّغَة الواحِدَة كالفارِسِيَّة والعَرَبِيَّة والرُّومِيَّة
والتُّركِيَّة فيها منْ الاختِلافِ والأنواع ما لا يُحصِيه إلاَّ الله، والعَرَب
أَنفُسُهم لكلِّ قومٍ لُغاتٌ لا يَفهَمُها غَيرُهم، فكيف يُتَصَوَّر أن يُنقَل هذا
جَمِيعُه عن أُولَئِك الذين كانوا في السَّفينة، وأُولَئِك جَميعُهم لم يَكُن لهم
نسلٌ، وإنَّما النَّسل لنوحٍ وجَميعُ النَّاس من أولادِهِ وهم ثلاثة: سام وحام
ويافِث؛ كما قال الله تعالى: {وَجَعَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِينَ﴾[الصافات: 77]، فلم يَجعَل باقِيًا إلاَّ ذُرِّيَّتَه، وكما روي
ذلك عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن أولاده ثلاثة ([1])، رواه أحمد وغيره.
ومعلوم أنَّ الثَّلاثَة لا يُمكِن أن يَنطِقوا بهذا كُلِّه،
ويَمتَنِع نَقْلُ ذلك عنهم؛ فإنَّ الذين يَعرِفون هَذِه اللُّغَة لا يَعرِفون
هَذِه، وإذا كان النَّاقِل ثَلاثَة فهم قد علَّموا أَولادَهُم، وأَولادُهُم
علَّموا أَولادَهُم، ولو كان كَذلِكَ لاتَّصَلَت.
ونحن نَجِد بني الأبِ الواحدِ يتكلَّم كلُّ قبيلة منهم بلغةٍ لا
تَعرِفُها الأُخرَى والأبُ واحِدٌ، لا يقال: إنَّه علَّم أَحَدَ بَنِيه لُغَة
وابنَهُ الآخَرَ لُغَة؛ فإنَّ الأبَ قد لا يكون له إلاَّ ابنان واللُّغاتُ في
أَولادِه أَضعافُ ذلك.
والذي أَجرَى الله عَلَيه عادَةَ بني آدَمَ أنَّهم إنَّما يعلِّمون أَولادَهُم لُغَتَهم التي يخاطِبُونَهم بها أو يُخاطِبُهم بها غَيرُهم، فأمَّا لُغاتٌ لم يَخلُق الله مَن يتكلَّمُ بها فلا يعلِّمونَها أولادَهُم، وأيضًا فإنَّه يُوجَد بنو آدم يتكلَّمون بألفاظٍ ما سَمِعُوها قطُّ من غَيرِهم.
([1])أخرجه: الترمذي رقم (3230)، وأحمد رقم (20100).