وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدَّار النبوية، فلما
حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان، ظهرت بدعة الحرورية.
وأمَّا المِدْينة النَّبوية، فكانت سَلِيْمةٌ مِنْ ظهور
هذه البدع، وإِنْ كان بها مَنْ هو مُضْمِرٌ لذلك، فكان عندهم مُهَانًا مَذْمُومًا،
إذ كان بهم قَوْمٌ مِنْ القدرَّية وغيرهم، ولكن كانوا مقهورين ذليلين، بخلاف
التَّشَيُّع والإرْجَاء في الكوفة، والاعتزال وبدع النُّسَّاك بالبصرة، والنَّصْبِ
بالشَّام، فإنَّه كان ظاهرًا، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ
الدَّجَالَ لا يدخُلُها.
ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهرا إلى زمن أصحاب مالك،
وهم مِنْ أهل القرن الرابع فأمَّا الأعْصار الثلاثة المفضلة، فلم يكن فيها
بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين ألبتة كما
خرج مِنْ سائر الأمصار.
· الأسباب الَّتِيْ أدت إلى ظهور البدع:
مما لا شك فيه أنَّ الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة فيه
منجاة مِنْ الوقوع في البدع والضلال.
قال تعالى: ﴿وَأَنَّ
هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ﴾ [الأنعَام: 153].
وقد وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا»، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «وهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ([1])، ثَّم تلا: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[الأنعَام: 153].
([1]) أخرجه: النسائي في الكبرى رقم (11109)، وأحمد رقم (4142).