أي: لا تمدحوني فتغلوا في
مدحي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام حتى ادَّعَوا فيه الألوهية. «إِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ
اللَّه وَرَسُولهُ»، أي: صفوني بذلك ولا تزيدوا عليه، فقولوا: عبد اللَّه
ورسوله، كما وصفني ربي بذلك، كما في قوله تعالى: ﴿ٱلۡحَمۡدُ
لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ﴾ [الكهف: 1] ،
وقوله: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي
نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ﴾ [الفُرقان: 1] ، وقوله: ﴿وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ
عَبۡدُ ٱللَّهِ يَدۡعُوهُ﴾ [الجنّ: 19] ، وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا
ٱلرَّسُولُ﴾ [المَائدة: 41]
، وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ﴾ [الأنفَال: 64].
فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه، فعظَّموه
بما نهاهم عنه وحَذَّرَهُم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وشابهوا النصارى في غلوهم
وشركهم، وجرى منهم مِنْ الغلو في حقِّه صلى الله عليه وسلم بما هو صريح الشرك في
نثرهم وشعرهم، كقول البوصيري في «البردة»
يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم :
يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا
لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ **** سِوَاكَ عَنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمَمِ
وما بعده مِنْ الأبيات التي مضمونها توجيه الدعاء
والعياذ واللياذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب تفريج الكربات منه في أضيق
الحالات وأشد الصعوبات، ونسي اللَّه عز وجل
وذلك أَنَّ الشيطان زين لهذا الناظم ولأمثاله سوء عملهم،
فأظهر لهم هذا الغلو في مدحه - وإِنْ كان شركا أكبر- في قالب حبِّه وتعظيمه صلى
الله عليه وسلم ، وأظهر لهم التزام السُّنَّة في عدم الغلو به صلى الله عليه وسلم
في قالب بغضه وتنقصه.
وفي الحقيقة إِنَّ ارتكاب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم مِنْ الإفراط في مدحه وترك متابعته في أقواله وأفعاله وعدم الرضى بحكمه هو التنقُّص الحقيقي له صلى الله عليه وسلم ، فلا يحصل تعظيمه ولا تتحقق محبته إلا باتباعه ونصرة دينه وسنته.