فأنت مالِكٌ لها من هَذِهِ الحيثية، مَمْلُوك لها
من الحيثية الَّتِي أقامَتْكَ من مقامِكَ ومَشَت بكَ إِلَى فَوْقَ القبر، فإن
تَدَارَكْتَ نفسَكَ بعد هَذِهِ وإلا كَانَت المستوليةَ عَلَيْكَ المتَصَرِّفَةَ
فيكَ المتلاعِبَةَ بكَ فِي جَمِيع ما تهواه مِمَّا قَد وَسْوَسَ به لها الخناسُ
الَّذِي يُوَسوِس فِي صدور النَّاس من الجِنَّة وَالنَّاس.
فإن قلتَ: قَد
رجعتُ إِلَى نفسي فلم أَجِد عِنْدَهَا شَيْئًا من هَذَا، وفَتَّشتُها فوَجَدتُها صافيةً
من ذَلِكَ الكَدَرِ. فما أَظُنُّ الحَامِلَ لكَ عَلَى المَشْي إِلَى القبر إلاَّ
أنكَ سَمِعتَ النَّاسَ يَفعلون شَيْئًا ففَعَلتَه، ويقولون شَيْئًا فقُلتَه. فاعلم
أن هَذِهِ أَوَّل عقدة من عُقُود توحيدكَ، وأول محنة من مِحَنِ تقليدكَ، فَارْجِعْ
تُؤْجَرْ، ولا تَتَقَدَّمْ تُنْحُرْ، فإن هَذَا التَّقْلِيد الَّذِي حَمَلَكَ
عَلَى هَذِهِ المشية الفارغة العاطلة البَاطِلَة سيَحمِلُكَ عَلَى أَخَوَاتِهَا
فتَقِف عَلَى بَاب الشِّرْك أَوَّلاً، ثُمَّ تَدخُل مِنْهُ ثَانِيًا، ثُمَّ تَسكُن
فيه وإليه ثَالِثًا. وأنتَ فِي ذَلِكَ كله تقول: سَمِعتُ النَّاسَ يَقُولُونَ
شَيْئًا فَقُلْتُه، ورَأَيْتُهُم يَفْعَلُونَ أَمْرًا فَفَعَلْتُه.
وإن قلتَ: إنكَ
عَلَى بصيرة فِي عَمَلِكَ وَعِلْمِكَ، ولستَ مِمَّن ينقاد إِلَى هَوى نفسه كالأول،
ولا مِمَّن يَقهَرها، وَلَكِنَّهُ يُقلِّد النَّاسَ كالثاني، بل أَنْتَ صافي
السِّرِّ، نَقِيُّ الضميرِ، خَالِصُ الاِعْتِقَادِ، قَوِيُّ اليقينِ، صَحِيحُ
التَّوْحِيدِ، جَيِّدُ التَّمْيِيزِ، كاملُ العِرفانِ، عالِمٌ بِالسُّنَّةِ والقرآنِ،
فَلاَ لِمُرَادِ نَفْسِكَ اتَّبَعْتَ، ولا فِي هُوَّةِ التَّقْلِيدِ وَقَعْتَ.
****
قَوْله: «وإن قُلْتَ: إنكَ عَلَى بصيرة...»؛ يَعْنِي: زَكَّيْتَ نَفْسَكَ.