وَلَهَذَا يقول الْعُلَمَاء: السُّنة
هي الْوَحْي الثَّانِي، فهي في الدَّرجة الثَّانِيَةِ بعد الْقُرْآن في
الاِحْتِجَاج وَالْعَمَلِ، ولا بُدَّ من الْعِنَايَة بها من خِلاَل حِفْظ
الأَْحَادِيث كما جَاءَت عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم بِأَلْفَاظِهَا من غير
تَغْيِير، وَالْوَعْي الْوَارِدُ في قوله صلى الله عليه وسلم: «ووَعاها» مَعْنَاه: الْفِقْه فِيهَا؛
فلا يَكْفِي الْحِفْظ وَحْدَه وإنَّما الْحِفْظ مع الْفِقْه وَمَعْرِفَةِ
مَعَانِيهَا، وهذا فيه الحَثُّ على الْفِقْه مع الْحِفْظ، لِيَنْتَفِع
الْمُسْلِمُون بسُنَّتِه صلى الله عليه وسلم.
ولا يَكْفِي أن يَحْفَظ الْمُسْلِم الأَْحَادِيثَ
ويفْقَه مَعْنَاهَا بل لا بُدَّ وَأَن يُبلِّغها إلى غَيْرِه، فَيَنْبَغِي على
طَالِب الْعِلْم إذا عَلِم شيئًا أَلاَّ يَكْتُمَه بل يُبلِّغه إلى غَيْرِه؛ لأنَّ
هذا الْعِلْمَ نافع للأُمة إلى أن تَقُوم السَّاعَة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ»
لأنَّ حَامِل الْفِقْه إذا بلَّغه إلى غَيْرِه فَرُبَّمَا يكون هذا المُبلَّغُ
أَعْرَفَ لِمَعْنَاه وأفْقَهَ.
وفي هذا بَيَانٌ أنَّه لا يَنْبَغِي لِلْمَرْء أن
يُزَكِّي نفسَه، قال تعالى: ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ﴾ [يوسف: 76]، فقد يَحْفَظ المرءُ الْحَدِيث ولا يتَّضح
له مَعْنَاه فيُبلِّغه إلى من هو أَفْقَه منه فَيُسْتَنْبَط منه ما لا يَفْهَمُه
الْحَامِل له، فإذا بلَّغه بَرِئَت ذِمَّتُه وَأَوْصَل العِلْمَ إلى غَيْرِه،
فَيَحْصُل بذلك الْخَيْرُ الْكَثِيرُ.
فيتَّضح من الْمَسْأَلَة الأُوْلَى الحَثُّ على حِفْظ
الأَْحَادِيث النَّبَوِيَّةِ والتَّفَقُّهِ في مَعَانِيهَا وَإِبْلاَغِهَا
لِلْغَيْر من الْمُسْلِمِين، فيه أيضًا النَّهْي عن كِتْمَان الْعِلْم،
وَالنَّهْيُ عن تَزْكِيَة النَّفْس وألاَّ يَرَى الْمَرْء نفسَه بِأَنَّه صَار
فقيهًا وأنَّه أَفْقَه من غَيْرِه، بل هناك من هو أفقَهُ منه؛ وهذه سُنَّة الله في
خَلْقِه حيث إنَّ النّاس يَتَفَاضَلُون فِيْمَا يُعطيهم الله عز وجل، فإذا خَفِيَ
على أَحَدِهِم شيءٌ فهناك من الْمُسْلِمِين من لا يَخْفَى عليه هذا الشَّيْءُ إذا
بَلَغَه الْحَدِيث