×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الأول

الثَّانِي: أَنَّه أمرَنَا بإقَامةِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ المُشتركِ والمختصِّ ونَهَانا عن التَّفرُّقِ فيه. ثُمَّ بيَّنَ رحمه الله أَنَّ التَّفرُّقَ عَلَى نوعينِ:

النَّوعُ الأَوَّلُ: التفرُّقُ المذمومُ، وهو: ما كَانَ الدَّافِعُ إليه التَّعصُّبَ والكِبْرَ بعدَ معرفَةِ الحَقِّ مع وضوحِ الدَّلِيلِ.

والنَّوْعُ الثَّانِي: التَّفرُّقُ غيرُ المذمومِ، وهو: ما كَانَ الدَّافِعُ إليه الاجتهادَ، والمقصود منه الوصولُ إِلَى الحَقِّ مع خفاءِ الدَّلِيلِ، واستشهدَ بقَوْلِهِ تَعَالى: {وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ [الشورى: 14] ، قال: فأخبر أنْ تفَرُّقَهم إِنَّمَا كَانَ بعدَ مجِيءِ العلمِ الَّذِي بيَّنَ لهُم ما يتَّقُونَ.

فإِنَّ اللهَ ما كَانَ ليُضِلَّ قومًا بعدَ إذ هَدَاهم حَتَّى يُبَيِّنَ ما يتَّقُون، وأخبر أَنَّهم ما تفرَّقُوا إلاَّ بَغْيًا، والبغيُ مجاوَزَةُ الحَدِّ، وهَذَا بخلافِ التَّفرُّقِ عن اجتهادٍ لَيْسَ فِيهِ عِلمٌ ولا قُصِدَ به البَغْيُ كتنَازُعِ العُلماءِ السَّائِغِ. والبغيُ إمَّا تضييعٌ للحَقِّ، وإمَّا تعدٍّ للحَدِّ؛ فهو إمَّا تركُ واجبٍ، وإمَّا فعلُ مُحرَّمٍ. فعُلِمَ أن مُوجبَ التَّفرُّقِ هو ذَلِكَ، وهَذَا كَمَا قَالَ عن أَهْلِ الكِتَابِ: {وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ [المائدة: 14] ، فأخبر أنْ نسْيَانَهم حَظًّا ممَّا ذُكِّرُوا به، وهو تَركُ العملِ ببعْضِ ما أُمِرُوا به كَانَ سَببًا لإغْرَاءِ العداوَةِ والبغضَاءِ بَيْنَهُم، وهكذا هو الوَاقِعُ فِي أهْلِ ملَّتِنَا مثلمَا نجده بين الطَّوائفِ المتنازعَةِ فِي أُصولِ دِينِهَا وكثيرٍ من فُرُوعِهِ.

ومثَّلَ رحمه الله لذَلِكَ بما يَقَعُ بين المتفَقِّهِ المُتمَسِّكِ من الدِّينِ بالأعمالِ الظاهرَةِ وبين المُتصَوِّفِ المُتمَسِّكِ من الدِّينِ بأعمَالٍ باطِنَةٍ؛ كُلٌّ منهما ينْفِي طَرِيقَةَ الآخَرِ، ويدَّعِي أَنَّه لَيْسَ من أهْلِ الدِّينِ، أو يعرضُ عنه


الشرح