×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الأول

والحكمُ هُوَ الفصلُ بَيْنَ الشَّيئينِ، فالحَاكِمُ يفصِلُ بَيْنَ الخصمينِ، والحكم فصَلٌ بَيْنَ المُتشابهات علمًا وعملاً؛ إِذَا ميَّز بَيْنَ الحَقِّ والباطلِ والصِّدقِ والكذبِ والنَّافعِ والضَّارِّ، وذَلِكَ يتضمَّنُ فعل النَّافع وترك الضَّار، فيقال: حَكَمْتُ السَّفيهَ وأحكمْتُهُ إِذَا أخذْتَ عَلَى يديه، وحكمت الدَّابَّةَ وأحْكَمْتَها إِذَا جعَلَت لها حكمة، وَهُوَ ما أحاطَ بالحنكِ مِنَ اللِّجامِ، وإحكام الشَّيءِ إتقَانه، فإحكامُ الكلامِ إتقانه بتمْيِيزِ الصِّدْقِ مِنَ الكذبِ في أخباره، وتمييزُ الرُّشدِ مِنَ الغيِّ في أوامِرِه، والقرآنُ كُلُّه محكمٌ بمعنى الإتقانِ، فقَدْ سمَّاهُ اللهُ حكيمًا بقوله: {الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ [يونس: 1] ، فالحكيمُ بمعنى: الحَاكِمِ، كَمَا جعله يقصُّ بقوله: {إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ [النمل: 76] ، وجعله مُفْتِيًا في قولِهِ: {قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ [النساء: 127] ؛ أي: ما يُتْلَى عَلَيْكُم يفْتِيكُم فِيهنَّ، وجعَلَه هاديًا ومبشرًا في قولِهِ: {إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ [الإسراء: 9] ، وأَمَّا التَّشابه الَّذِي يعمّه فهو ضدُّ الاختلافِ المنْفي عنه في قولِهِ: {وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا [النساء: 82] ، وَهُوَ الاختلافُ المذْكُورُ في قولِهِ: {إِنَّكُمۡ لَفِي قَوۡلٖ مُّخۡتَلِفٖ ٨ يُؤۡفَكُ عَنۡهُ مَنۡ أُفِكَ ٩ [الذاريات: 8- 9] .

فالتَّشابُهُ هنا هُوَ تماثُلُ الكَلامِ وتناسبُهُ بحَيثُ يُصَدِّقُ بعْضُه بعضًا، فإِذَا أمرَ بأمرٍ لَمْ يأمرْ بنقيضِه في موضعٍ آخرَ بل يأمرُ به أو بنظيرِه أو بمَلْزُومَاته، وإِذَا نَهَى عَنْ شيءٍ لَمْ يأمرْ به في موضعٍ آخرَ، بل ينْهَى عنه أو عَنْ نظيرِه أو عَنْ مَلْزُومَاتِه؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ هناك نسخٌ، وكَذَلِكَ إِذَا أخبر بثُبوتِ شيءٍ لَمْ يخبِرْ بنقيضِ ذَلِكَ، بل يخبِرُ بثبوتِه أو بثبوتِ


الشرح