والأبصارُ البصائرُ في دِينِ اللهِ، فبالبَصَائِرُ يُدرَكُ الحقُّ ويُعرَفُ، وبالقوَّةِ يُتَمَكَّنُ مِن تَبلِيغِه وتَنفيذِهِ والدَّعوةِ إليهِ، فهذِه الطبقةُ كُنَّا لهَا قُوَّةَ الحفظِ والفهمِ والفِقهِ في الدِّينِ والبَصَرِ والتأويلِ فَفجَّرَتْ مِنَ النُّصوصِ أنهارَ العُلُومِ واسْتَنْبَطَتْ مِنها كُنُوزَها ورُزقت فِيهَا فَهْمًا خَاصًّا، كما قَالَ أميرُ المُؤمِنينَ عَليُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وقد سُئِلَ: هَل خَصَّكُم رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيءٍ دُونَ الناسِ؟ فَقَالَ: لا والذي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأ النَّسْمَةَ إلاَّ فَهْمًا يُؤتِيهِ اللهُ عَبدًا فِي كِتابِهِ ([1]) فهَذَا الفهمُ هُو بِمنزِلَةِ الْكَلأِ والعُشْبِ الذي أَنْبَتَتْهُ الأرضُ الطَّيبةُ وهُو الذي تَمَيَّزتْ بِه هذهِ الطبقةُ عَن الطبقةِ الثانيةِ، وهِيَ التي حَفِظَتْ النُّصوصَ فَكَانَ هَمُّها حِفظَها وضَبْطَها، فَورَدَها الناسُ وتَلَقَّوهَا بالقَبُولِ، واسْتَنْبَطُوا مِنها واسْتَخْرَجُوا كُنُوزَها، واتَّجَرُوا فِيها وبَذَورُها في أرضٍ قابلةٍ للزَّرعِ والنَّبَاتِ ووردُوها كُلٌ بِحَسَبِه {قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ﴾ [البقرة: 60] ، وهؤُلاءِ الذينَ قالَ فِيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي، فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ([2])، وهذا عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حبرُ الأُمَّةِ وتَرْجُمَانُ القُرآنِ مِقْدَارُ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لا يبلُغُ نحوُ العِشرينَ حَدِيثًا، الَّذِي يَقُولُ فِيه: «سَمِعْتُ وَرَأَيْتُ»، وسَمِعَ الكثيرُ مِن الصَّحَابةِ، وبُورِكَ له فِي فَهمِه والاستنباطِ منهُ حتَّى مَلَأَ الدُّنْيَا فِقْهًا وَعِلمًا، قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بنِ حَزْمٍ: وجُمِعَتْ فَتَاوَاه فِي سَبعةِ أَسْفَارٍ كِبَارٍ، وهِي بِحَسبِ مَا بَلَغ جَامِعُها، وإلا فَعِلمُ ابنُ عَبَّاسٍ كَالبحْرِ، وفِقْهُه واسْتِنْبَاطُه وفَهْمُه في القُرآنِ بِالمَوضِعِ الذي فَاقَ بِه الناسَ، وقَد سَمِعُوا مَا سَمِعَ وحَفِظُوا القُرآنَ
([1])أخرجه: البخاري رقم (111)، ومسلم رقم (1370).