×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الأول

كَمَا حَفِظَه، لكنَّ أرضَه كَانَتْ مِن أطيبِ الأراضي وأقبَلِهَا للزَّرعِ، فبَذَر فِيها النُّصوصَ فَأنْبَتَتْ من كُلَّ زَوجٍ كَرِيم و {ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ [الجمعة: 4] .

وأينَ تَقَعُ فَتَاوَى ابنِ عبَّاسٍ وتَفسيرُه واستنباطُه مِن فَتاوى أبِي هُريرةَ وتَفسيرِه؟ وأبو هريرةَ أحفظُ منهُ بل هُو حافِظُ الأُمَّةِ على الإِطلاَقِ؛ يُؤَدِّي الحَدِيثَ كَمَا سَمِعَه ويَدْرُسُه بِالليلِ دَرْسًا، فَكانتْ هِمَّتُه مَصْرُوفَةً إلى الحِفظِ وتَبليغِ ما حَفِظَهُ كما سَمِعَهُ، وهمَّةُ ابنِ عبَّاسٍ مَصروفةٌ إلى التَّفَقُّهِ والاسْتِنْبَاطِ، وتَفْجِيرِ النُّصوصِ وشقِّ الأَنْهَارِ منها واسْتِخَراجِ كُنُوزِهَا، وهَكَذا ورِثَتْهُم مَن بَعْدَهُم اعْتَمَدُوا فِي دِينِهم عَلَى اسْتِنْبَاطِ النُّصُوصِ لا عَلَى خَيَالٍ فَلْسَفِيٍّ ولا رَأْيٍ قِيَاسِيٍّ ولا غَيْرِ ذَلِكَ مِن الآرَاءِ المُبْتَدَعَاتِ، لا جَرَمَ كَانتِ الدَّائِرةُ والثَّنَاءُ والصِّدقُ والجَزَاءُ العَاجِلُ والآجِلُ لِوَرثَةِ الأَنْبِيَاءِ التابِعِينَ لَهُم فِي الدُّنيا وَالآخِرةِ؛ فإنَّ المَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِه: {قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ [آل عمران: 31] ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُم أَعْلَمُ الأمَّةِ بِحَديثِ الرسُولِ ومَقَاصِدهِ وأحوَالِهِ.

ونحنُ لا نَعْنِي بِأهلِ الحَدِيثِ المُقْتَصِرينَ على سَمَاعِه أو كِتَابتِهِ أو رِوايتِهِ، بلْ نَعْنِي بِهِم كُلَّ مِن كانَ أحقَّ بحفظِهِ ومَعْرِفَتِه وفهمِهِ ظَاهِرًا وبَاطِنًا واتِّبَاعِهِ ظَاهِرًا وبَاطنًا وكذلكَ أهلُ القُرآنِ، وأدنَى خَصْلَةٍ فِي هَؤُلاءِ مَحبةُ القُرآنِ والحَدِيثِ، والبحثُ عنْهُما وعنْ معانِيهِما والعَمَلِ بِما عَمِلُوه مِن مُوجِبِهِما؛ فُقَهاءِ الحَدِيثِ أَخبرَ بِالرَّسُولِ مِن فُقَهاءِ غَيرِهِم، ومِنَ المَعلُومِ أَنَّ المُعَظِّمينَ للفَلسَفَةِ والْكَلامِ المُعْتَقِدينَ لِمَضْمُونِهما هُم أَبْعَدُ عن مَعْرِفَةِ الحَدِيثِ، هَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، بل إِذَا كُشِفَتْ أَحْوَالُهُم وَجَدتَهُم أَجْهَلَ النَّاسِ بأَقْوَالِه صلى الله عليه وسلم وأَحْوَالِهِ وبَوَاطِنِ أُمُورِه وظَواهِرِهَا،


الشرح