×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الأول

 مَنْ حَضرَ من أصحابِهِ، وإِذَا هو نَظْمٌ من بَحْر أبْيَات السُّؤال وَقَافِيَتِهَا، تَقْربُ من مِائَةٍ وأَرْبَعةٍ وثَمَانينَ بيتًا، وقَدْ أبرزَ فيها من العُلُوم مَا لَوْ شرحَ لبَلَغ مُجلَّدين كَبيرَين، وهَذَا من جُمْلة بَوَاهِرِه.

قَالَ ابْنُ عَبْد الهَادِي: بَلَغني أنَّ بعضَ مشايخ حَلب قَدِمَ إِلَى دمشقَ وقَالَ: سَمعتُ فِي البلاَد بصَبيٍّ يُقَالُ لَه: أحْمَد بن تَيْميَة، وأَنَّه كَثيرُ الحِفْظِ، وَقَدْ جئت قاصدًا لعَلِّي أَرَاه، فقَالَ له خياطٌ: هَذِهِ طَريقُ كُتَّابِهِ، وَهُوَ إِلَى الآنَ ما جَاءَ، فَاقْعُدْ عِنْدَنا السَّاعةَ يمرُّ ذاهبًا إِلَى الكُتَّابِ، فلَمَّا مرَّ قيلَ: هَا هُوَ الَّذِي معه اللَّوْحُ الكَبير، فَنَاداه الشَّيخُ وأَخذَ منه اللَّوحَ، وَكَتبَ من مُتُون الحَدِيثِ أَحدَ عَشرةَ أو ثَلاَثةَ عَشرَ حَديثًا. وقَالَ له: اقْرَأ هَذَا! فلَمْ يَزِدْ عَلَى أنْ نَظرَ فيه مَرَّةً بعد كِتَابتِهِ إيَّاه ثُمَّ دَفَعه إلَيْه، وقَالَ: اسْمَعْه عَليَّ! فَقَرأه عَلَيْه عَرْضًا كأَحْسَن ما يَكُون. ثُمَّ كَتَبَ عدَّة أَسَانيدَ انْتخَبها فَنظَرَ فيه كَمَا فَعَلَ أوَّل مَرَّةٍ فَحَفظها، فَقَامَ الشَّيخُ، وَهُوَ يَقُولُ: إنْ عَاشَ هَذَا الصَّبيُّ ليَكُوننَّ له شَأْنٌ عظيمٌ، فإنَّ هَذَا لم يُرَ مثلُهُ؛ فكَانَ كما قَالَ.

وأمَّا سرعتُهُ فِي الكِتَابةِ فَقَد ذَكَروا عنه الشَّيء العَجيبَ، وَأَنَّه كَانَ يَكْتُبُ من حِفْظِهِ من غَيْر نقلٍ، وَذَكَروا أَنَّه كَتبَ مُجلَّدًا لطيفًا فِي يَوْمٍ. وكَتَب غيرَ مَرَّةٍ أربعينَ وَرقةً فِي جلستِهِ، ومِنْ عَجَائِبِ حفظِهِ أَنَّه لَمَّا سُجِنَ صَنَّف كتبًا كَثيرةً وذَكَر فيهَا الأَحَاديثَ وَالآثارَ وأَقْوالَ العُلَمَاء وأَسْمَاء المُحدِّثين وَالمُؤلِّفين ومُؤلَّفَاتهم، وَعَزَا كُلَّ شَيْءٍ من ذَلِكَ إِلَى نَاقِلِيه وَقَائِلِيه بأَسْمَائهم، وَذَكَر أسْمَاء الكُتُب الَّتِي ذكرت فِيهَا تِلْكَ النُّقُول والأَقْوَال وَمَوَاضعها منها، كُلُّ ذَلِكَ من حِفْظِهِ! فسُبْحانَ الَّذِي يَمنُّ عَلَى مَنْ يَشاءُ بفضلِهِ وتَوْفيقِهِ.


الشرح