الرَّابِعُ: أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم إِذَا تكَلَّم
بكَلاَمٍ وأرادَ به خَلافَ ظَاهِرِه وضِدَّ حقِيقَتِه فلا بُدَّ أن يبيِّنَ
للأُمَّةِ أَنَّه لم يُرِدْ حقِيقَتَه بل أرَادَ مَجازَه، سواء عيَّنَهُ أو لَمْ يُعيِّنْهُ،
لا سيَّمَا فِي الخطابِ العلمِيِّ الَّذِي فهمَ فِيهِ الاعتقَادُ والعِلْمُ دُون
عمَلِ الجَوارِحِ، فإِنَّه سبحانه وتعالى جعلَ القُرآنَ نُورًا وهدًى وبيَانًا
للنَّاسِ وشفَاءً لمَا فِي الصُّدورِ، وأرسَلَ الرُّسُلَ ليبيِّنَ للنَّاسِ ما
نُزِّلَ إليهم ولِيَحْكُمَ بينَ النَّاس فيمَا اختَلَفُوا فِيهِ، ولِئَلاَّ يَكُونَ
للنَّاسِ عَلَى اللهِ حجَّةٌ بعدَ الرُّسلِ، ثُمَّ الرَّسُولُ الأُمِّيُّ
العَربِيُّ بُعِثَ بأَفْصَحِ اللُّغَاتِ وأَبينِ الألسِنَةِ والعبَارَاتِ، ثُمَّ
الأُمَّةُ الَّذِينَ أَخذُوا عنه كَانُوا أعمَقَ النَّاسِ علمًا وأنصَحَهم
للأُمَّةِ وأبينَهم للسُّنَّةِ؛ فلا يجوزُ أن يتكَلَّمَ هو وهَؤُلاَءِ بكَلامٍ
يُرِيدُون به خِلاَفَ ظَاهِرِه إلاَّ وقَدْ نصبَ دليلاً يمنَعُ من حمْلِهِ عَلَى
ظَاهِرِه؛ إمَّا أنْ يَكُونَ عقلِيًّا ظَاهِرًا مثل قَولِه: {وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ﴾ [النمل: 23] ،
فإنْ كَانَ يعلَمُ بعقْلِهِ أَنَّ المرادَ: أُوتِيَتْ من جِنسِ ما يُؤْتَاهُ
مثلُها، وكذَلِكَ قولُه: {ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ﴾ [الرعد: 16] يعلَمُ المُستَمِعُ أَنَّ الخالِقَ
لا يدْخُلُ فِي هَذَا العُمومِ، أو سَمْعِيًّا: ظَاهِرًا مثل الدَّلالاَتِ فِي
الكِتَابِ والسُّنَّةِ الَّتِي تصرفُ بعضَ الظَّواهِرَ، ولا يجوزُ أن يُحِيلَهُم
عَلَى دَليلٍ خَفِيٍّ لا يستَنْبِطُه إلاَّ أفْرَادُ النَّاسِ سواء كَانَ
سَمْعِيًّا أو عَقلِيَّا؛ لأَنَّه إِذَا تكَلَّم بالكَلامِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ
معنًى وأعَادَهُ مرَّاتٍ كثَيرِةٍ وخَاطَبَ به الخَلْقَ كُلَّهُم وفِيهِمُ
الذَّكِيُّ والبِلِيدُ والفِقِيهُ وغَير الفَقِيهِ، وقَدْ أوجَبَ عَلَيْهم أن
يتدَبَّرُوا ذَلِكَ الخطَابَ ويَعْقِلُوه ويتفَكَّرُوا فِيهِ ويعتقِدُوا مُوجبه،
ثُمَّ أوجَبَ أن لا يَعتَقِدُوا بهَذَا الخِطَابِ شيئًا من ظَاهِرِه؛ لأَنَّ
هُنَاكَ دليلاً خفيًّا يستَنْبِطُه أفْرَادُ النَّاس يدلُّ عَلَى أنَّه لَم يُرِدْ
ظَاهِرَه؛ كَانَ هَذَا تَدْليسًا وتَلْبِيسًا، وكَانَ نقيضَ البَيانِ وضِدَّ
الهُدَى، وهو بالأحَاجِي والألغَازِ أشَبْهُ