×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الأول

 وسُنَّتِه، وأَمَّا الطريقةُ الفلسفيةُ الكلاميةُ فإنَّهُم ابتدَءُوا بنفوسِهم فجعلوها هي الأصلَ الَّذِي يفرِّعون عَلَيْهِ، والأساسَ الَّذِي يبنون عَلَيْهِ فتكلَّموا في إدراكِهم للعلمِ أنَّهُ تارةٌ يَكُونُ بالحسِّ، وتارةٌ بالفعلِ، وتارةٌ بهما، وجعلوا العلومَ الحسِّيَّةَ والبديهية ونحوها هي الأصلَ الَّذِي لا يحصلُ علمٌ إلاَّ بها.

إِلَى أن قالَ: وهذه الطُّرقُ فيها فسادٌ كثيرٌ من جهَةِ الوسائلِ والمقاصدِ، أمَّا المقاصدُ فإن حاصِلَها بعد التعبِ الكثيرِ والسلامَةِ خيرٌ قليلٌ، فهي لحمُ جملٍ غثٍّ عَلَى رأسِ جَبلٍ وَعرٍ، لا سهلٌ فيُرتقَى، ولا سَمِينٌ فينتقَل، ثُمَّ إِنَّهُ يفوتُ بها مِنَ المقاصد المحمودة ما لا ينضبطُ، وأَمَّا الوسائلُ فإن هَذِهِ الطُّرقَ كثيرةُ المقدماتِ ينقطع السَّالكون فيها كثيرًا قبل الوصولِ، ومُقدِّمَاتها في الغالبِ إمَّا مشتبهة يقعُ النِّزاع فيها، وإمَّا خفية لا يُدْرِكُها إلاَّ الأذكياء، ولِهَذَا لا يتَّفقُ اثنانِ رئيسانِ عَلَى مقدِّماتِ دليلٍ إلاَّ نادرًا، فكلُّ رئيسٍ من رؤساءِ الفلاسفةِ والمتكلمينَ لَهُ طريقةٌ في الاستدلالِ تخالِفُ طريقةَ الرَّئيسِ الآخرِ بحيثُ يقدحُ كُلّ من أتباعِ أحدهما في طريقةِ الآخرِ، ويعتقد كُلٌّ منهما أنَّ اللهَ لا يُعرَفُ إلاَّ بطريقَتِه، وإن كَانَ جمهورُ أهلِ الملَّةِ بل عامَّةُ السَّلَفِ يُخَالفونه فيها، مثال ذَلِكَ: أنَّ غَالبَ المتكلِّمِينَ يعتقِدُون أنَّ اللهَ لا يُعرَفُ إلاَّ بإثباتِ حُدوثِ العالمِ، ثُمَّ الاستدلالُ بذلك عَلَى محْدِثِه، ثُمَّ لهم في إثباتِ حُدوثِ العالم طُرقٌ؛ فأكثرُهُم يستدِلُّون بحُدوثِ الأعراضِ وهي صفاتُ الأجسامِ، ثُمَّ القدريَّةُ مِنَ المعتزلةِ وغيرهم يعتقدون أنَّ إثباتَ الصَّانعِ لا يمكنُ إلاَّ بعد اعتقادِ أنَّ العبدَ هُوَ المحدِثُ لأفعالِه، وإلاَّ انتقضَ الدَّليلُ، ونحو ذَلِكَ مِنَ الأصولِ الَّتِي يُخالِفُهم فيها جُمهورُ المُسْلِمِينَ.


الشرح