×
أضواء من فتاوى ابن تيمية الجزء الأول

ذَلكَ طَائِفَةٌ، إذ كانَ أَئِمَّةُ المُسلِمِينَ مثلُ مالكٍ وحمادِ بنِ زيدٍ والثوريِّ ونحوِهِم إنَّمَا تَكَلَّمُوا بِما جاءتِ الرِّسَالةُ وفيه الهُدَى والشِّفَاءُ، فمَن لَم يَكُنْ له عِلمٌ بِطَريقِ المُسلِمِينَ يَعْتَاضُ عَنه بِمَا عِندَ هَؤُلاءِ، وهذا سَببُ ظُهورِ الِبَدعِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وهو خفاءُ سُننِ المُرسَلِينَ فِيهم وبِذَلكَ يقَعُ الهَلاكُ، ولِهَذا كَانُوا يَقُولونَ: الاعتصامُ بالسنَّةِ نَجَاةٌ.

قال مالِكٌ رحمه الله : السنَّةُ مثلُ سَفينةِ نوحٍ: مَنْ رَكِبَها نجَا، ومَن تخلَّفَ عنهَا هَلَكَ، وهَذا حقٌّ؛ فَإِنَّ سفينةَ نُوحٍ إِنَّما رَكِبَها مَن صَدَّقَ المُرسَلِينَ واتَّبَعَهُم، وأنَّ مَن لَمْ يَرْكَبْهَا فَقَدْ كذَّبَ المُرسَلِينَ، واتِّباعُ السُّنَّةِ هُو اتِّباعُ الرِّسالةِ التي جَاءتْ مِن عِندِ اللهِ، فاتِّباعُها بمنزلِة مَن ركِبَ معَ نوحٍ السفينةَ بَاطِنًا وظَاهِرًا، والمُتَخلِّفُ عنِ اتِّباعِ الرِّسَالةِ بِمَنزلَةِ المُتَخَلِّفِ عنِ اتِّبَاعِ نوحٍ عليه السلام ورُكُوبُ السَّفينَةِ معَهُ، وهَكَذا إِذَا تَدَبَّر المُؤمِنُ العِليمُ سَائِرَ مَقَالاتِ الفَلاسِفَةِ وَغيرِهِم مِنَ الأُمَمِ الَّتِي فِيها ضَلالٌ وكُفرٌ وَجَدَ القُرآنَ والسُّنَّة كَاشِفَانِ لأحْوَالِهم مُبَيِّنانِ لِحَقِّهِم مُمَيِّزَانِ بَينَ حَقِّ ذلكَ وباطِلَهُ، والصَّحَابةُ كَانُوا أعْلَمَ الخَلقِ بذلك، كَمَا كَانُوا أَقْوَمَ الخَلقِ بِجِهَادِ الكُفَّارِ والمُنَافِقينَ، كما قال عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ: مَن كَانَ مُسْتَنًّا فَليَسْتَنَّ بِمَن قد مَاتَ؛ فإنَّ الحَيَّ لا تُؤمَنُ عليهِ الفِتنةُ، أُولئكَ أصْحَابُ مُحمَّدٍ كانُوا أبَرَّ هَذِه الأمَّةِ قُلوبًا، وأَعْمَقِها عِلمًا وأقَلَّها تَكَلُّفًا، قومٌ اختَارَهُم اللهُ لِصُحْبَةِ نَبِّيهِ وإقامَةِ دِينِه، فاعْرِفُوا لَهُم حَقَّهم، وتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهم فَإنَّهم كَانُوا على الهُدَى المُسْتَقِيمِ.

فأخْبَرَ عَنْهُم بِكَمَالِ بِرِّ القُلُوبِ معَ كَمَالِ عُمقِ العِلْمِ، وهذا قَليلٌ فِي المُتَأخِّرينَ، كما يُقَالُ: مِن العَجَائِبِ فقيهٌ صُوفيٌّ وعالِمٌ زاهِدٌ، ونحوُ ذلك، فإنَّ أهلَ برِّ القُلوبِ وحُسنِ الإرَادَةِ وصَلاحِ المَقَاصِدِ يُحْمَدُونَ


الشرح